RSS
email

مسألة الهويّة




كتب السيد نوفل المصري خريج الاكاديميه السياسيه للتجمع و منسق جهوي لحوار الشباب عن موضوع مهم في مدونته :

سؤال الهوية مطروح في الفكر الانساني منذ استنبطت الفلسفة مقولة الماهية وأمعنت النظر في الذات البشرية ودعت الانسان لمعرفة نفسه. كما إنّه هاجس معرفي واشكالية حضارية تختلف صيغ طرحها باختلاف المراحل التاريخية، وتتباين التمثّلات والاجابات من مجتمع الى آخر ومن ثقافة الى أخرى.

وما زال الفكر العربي يخوض في مسألة الهويّة من زمن بعيد وبخاصة منذ تعرّضه لما يسمّى "صدمة الحداثة" بفعل تجربة الاحتكاك بالغرب، وبتأثير الاستعمار. وظلّت اشكالية الاصالة والمعاصرة، أو التراث والحداثة بصيغها المتنوعة "أم القضايا" التي تحدّد تعامل مجتمعاتنا مع واقعها وعلاقاتها بالآخرين وبالتالي مستقبلها ومصير أجيالها القادمة.

ولم تكن الثقافة التونسية بمعزل عن هذا الجدل بل كان للمصلحين ورواد الحداثة من أبنائها شأن كبير في ارساء نموذج تونسي معتدل يوفّق بين التمسّك بالجذور ومقتضيات الحداثة.

وهو اتّجاه عام ظلّ ثابتا في تاريخ بلادنا وعاملا من عوامل تماسك مجتمعنا في مختلف المراحل والحقب. وقد استند مشروع التغيير الى هذا المعطى التاريخي والحضاري لانقاذ مسيرة التحديث وهي تواجه خطر الانتكاس والتعثّر في الثمانينات،

وذلك انطلاقا من ادراك الرئيس زين العابدين بن علي بأنّ التجارب قد أثبتت أنّ شعبنا عرف كيف يقف موقفا وسطا بين حدّين هما

الافراط والتفريط "فلم يفرّط التونسيون في النقل عن نماذج غيرهم ولم يفرّطوا في أصالتهم العربية الاسلامية وانما كانوا دائما أمّة وسطا وأهل اعتدال وتسامح ووفاق وإذا وجد من بينهم أحيانا استثناء في هذا الجانب أو ذاك فإنّ القيم الغالبة كفيلة بتخفيض غلوائه".

من هنا حقّق العهد الجديد مصالحة شاملة بين التونسي وذاته، وثبّت مقومات الهوية في جذورها العربية الاسلامية وعزّز أبعادها المتوسطية والافريقية وهي من عوامل ثرائها وانفتاحها.

ولمّا كانت المرحلة التاريخية الراهنة تطرح تحدّيات جديدة وخطيرة بفعل العولمة وما صاحبها من تنام لنزعات الانكفاء على الذات من ناحية واتجاهات التنميط والتغريب من ناحية أخرى، فقد دعا الرئيس زين العابدين بن علي منذ السنوات الاولى للتغيير الى ضرورة تقويم ثقافتنا تقويما تتنزّل بمقتضاه علاقتنا بتراثنا وماضينا منزلتها الموضوعية ويساعد على حضور فاعل ومخصب في الثقافة الانسانية.

وتعكس هذه الدعوة الشجاعة رؤية حضارية نموذجية في عالمنا المعاصر فقد أدرك الرئيس أنّ عملية استيعاب الذات التاريخية لا يجب أن تفضي الى الانبهار بها والانحصار فيما يعتقد أنّه مسلّمات وأجوبة جاهزة لكلّ الأسئلة، وإن اختلف الزمان والمكان، فبذلك تخرج الثقافة من الحداثة وتضلّ طريق العودة الى الأصالة في نفس الوقت، أي أنّها، في نهاية التحليل، تغادر التاريخ.

قال الرئيس زين العابدين بن علي : "الخشية أن تتحوّل إرادة التميّز بعنوان الأصالة الى انغلاق يسلبنا الحضور وملكة المشاركة أو الى انفتاح ينحلّ بمقتضاه عقد الشخصية الثقافية ويدخلنا دائرة التبعيّة".

بهذا أجابت تونس على سؤال الهوية، فالمسألة ليست مسألة انتماء حضاري فذلك موضوع محسوم ولا يحتاج الى كثير من التبيين، وما أنجز في بلادنا من أجل ترسيخ مقوّمات الشخصية العربية الاسلامية وفي ظرف عقدين من الزمن، ليس له مثيل في تاريخ تونس القريب أو البعيد.

التحدّي الكبير هو تحدّي العصر وتحولاته وتغيّراته المتسارعة، وليس أشدّ خطرا كما يقول الرئيس زين العابدين بن علي إزاء هذا الواقع " من الانطواء على الذات وامتداح الماضي والاكتفاء بالاشارة الى المستجدّات دون الاقدام على تدّبر السبل الكفيلة بالمواكبة الواعية والمساهمة الفاعلة في التطوّرات التي تجري من حولنا".

إنّنا إزاء مقاربة حضارية تجعل من الهوية عامل دفع واخصاب وليس عنوان أزمة وعطالة، وتتّجه نحو أسئلة العصر التي لن تتيسّر الاجابة عنها الاّ إذا عزّزنا تواصلنا بفترات النّور في تاريخنا وطرقنا أبواب ما لم نفكّر فيه في تراثنا (Le patrimoine impensé) كما يقول محمد أركون، ودخلنا مجالات جديدة للتفكير في ثقافتنا. من ثمّ نستطيع فتح نوافذ بيتنا مشرّعة على رياح ثقافات العصر لتهبّ عليه بحريّة ولن تقوى احداها على اقتلاعنا من جذورنا، كما ذهبت الى ذلك حكمة المهاتما غاندي.


Bookmark and Share
blog comments powered by Disqus
 

زوار المدونة

free counters

Map

Taoufik Gharbi

Taoufik Gharbi
w

عبر بكل حرية :


ShoutMix chat widget

Vous souhaitez que

Vous visitez mon Blog