RSS
email

الوطنية: تصحيح للمفهوم

2

الأستاذ عادل كعنيش

محام . جريدة الصباح – 26 جانفي2010


تشهد الساحة الإعلامية في هذه الفترة سواء بتونس أو خارجها جدلا حول مفهوم الوطنية خاصة و أن هنالك بلدانا مثل فرنسا قد أصبح عدد كبير من رعاياها يحملون الجنسية الفرنسية و هم من أصول مغاربية فكيف يكون التوافق بين الولاء الوطني الذي تفرضه الجنسية و عناصر الهوية ؟

و في تونس

يطرح موضوع الوطنية مشكلا آخر فهل يفرض الانتماء الوطني على الفرد أن لا يتخطى عتبة المسموح به في علاقاته مع الخارج أم أنه بإمكانه بعنوان الدفاع عن حقوق الانسان أن يتجاوز الخطوط الحمراء ؟

المثقف يقف عموما في خضم هذه التجاذبات موقفا باهتا دون أن يحرك ساكنا و هذا الموقف السلبي يفسره البعض بأنه إخفاق كامل لدور المثقف بعد سقوط الإيديولوجيات الشمولية لكن الغالبية لا تقول بنهاية دور المثقف وإنما بنهاية صنف محدد من المثقفين الذين هم قادرون على تحريك السواكن و تجذير النفس الوطني حتى يكون المجتمع باستمرار ذو طاقة خلاقة تدفعه باستمرار نحو الأفضل.

بين هذا الرأي و الآخر فإن القضايا التي تخص الهوية و الوطنية و الحداثة و الديمقراطية ليست اختراعا لمفكر يعيش خارج العالم بل هي قضايا تحتاج باستمرار لمزيد من الحوار و التعميق .

التونسي يعيش كغيره من سكان العالم مرحلة انتقالية في هذا الوقت بالذات لبروز ظاهرة العولمة و انتشار وسائل الاتصال الحديثة و بروز الفضائيات التي تقدم برامج ذات مضامين مختلفة إن لم تكن متضاربة لذلك فإن نخبه الفكرية مدعوة إلى تعميق الحوار حول هذه المواضيع و من بينها قضية الوطنية فهنالك أهداف عديدة تنشدها البلاد في خصوص الحداثة و الانخراط في العولمة فكيف يمكن التعامل مع هذه القضايا؟ و كيف يتحصن التونسي من الاختراقات الخارجية حتى يحافظ على انتمائه الوطني الكفيل وحده بمواصلة عملية التطوير و التحديث دون الذوبان في الغير؟

الحقيقة أن الخيارات صعبة خاصة أمام الأجيال الصاعدة فهنالك تجاذب كبير بين تيار العولمة الذي يلوح بنهاية مفهوم الأمة و تيار الخصوصية الذي ينكر الهوية الواسعة، تجاذبا يرفض التبعية للغير و تيار يقول إن العالم قرية كونية و لا سبيل لأي وطن أن يكون في استقلال تام عن بقية الشعوب و خاصة الفاعلة في السياسة و الاقتصاد العالمي

مهما يكن من أمر فإنه بالنسبة لبلد صاعد كتونس يتطلع إلى مستقبله بتفاؤل هو في حاجة لكي تفكر نخبه و تركز على عدة عناصر من بينها الانتماء الوطني حتى تخلق مزيدا من التحفز و الطموح للتسريع بعملية التطوير و التحديث و لكن مع تحصين الوطن من الاختراقات الأجنبية التي كثيرا ما تأتي بتحريض من بعض الأفراد الذين يعتقدون أنه بإمكانهم الاستقواء بالأجنبي للضغط على استقلال القرار .

تعميق الانتماء الوطني لدى الناشئة أصبح اليوم في حاجة لمزيد من التجذير و هو يحتاج إلى مقارنة شاملة تشترك فيها المدرسة و العائلة و مؤسسات المجتمع المدني و يساهم في تنشيطها الإعلام بكل أصنافه و يؤمن فيها المثقف الوطني دورا بالغ الأهمية .

يبدأ المجهود بترسيخ عادات و ممارسات رمزية كتحية العلم و ترديد النشيد الوطني بساحات المدارس بكل تركيز و احترام و تعمقها الجمعيات الشبابية و الطلابية بالرجوع للعمل التطوعي وإقرار حضائر الخدمة الوطنية في المناطق الداخلية حتى تترسخ لدى الناشئة قيم خالدة قوامها محبة الوطن و التضحية من أجله.

وبعد ذلك تأتي الدروس التي يتلقاها الطفل في المؤسسات التربوية لتزيد في تعميق حسه الوطني فيكتشف عناصر الهوية من لغة و دين و تاريخ حضاري كبير عرفته هذه البلاد طيلة ثلاثة آلاف سنة فيستوعب أن الوطنية تتمثل في أن يلتزم عندما يكبر بمواقيت العمل و الوطنية أن يعمل بإخلاص و أن لا يضر بالمصلحة العليا للوطن و الوطنية أن لا يستغل وظيفته لاغراض خاصة و أن يكون على قدر المسؤولية التي تسند إليه باعتبار أن المسؤولية هي تكليف و ليست تشريفا و الوطنية أن يحافظ على الملك العام و ان يساهم في الحفاظ على البيئة , بعبارة أشمل واوضح أن تقدم مصلحة الوطن على المصالح الشخصية لكن قبل كل هذه الاعتبارات فعلى الناشئة أن تعي أن الوطنية تفرض أن نصون جميعا استقلال البلاد و حرية القرار فيها بدون أي تبعية و أن نرفض إطلاقا الاستقواء بالاجنبي و التحالف معه ضد مصلحة البلاد مهما كانت المبررات.

التاريخ مليء بالعبر و الأمثال فكلما استقوى أحد ابناء هذا الوطن بالاجنبي إلا و حصلت كوارث كبرى و احتلت البلاد و سقط عشرات الآلاف من الضحايا.

لقد نقل إلينا المؤرخون كيف تحالف ماسينيسا الملك الامازيغي مع سيبيون الافريقي ضد القائد سيفاكس فأسر هذا الأخير و اقتيد مغلولا إلى روما و واصل ماسينيسا خياناته لقرطاج و انضم لفرقة الخيالة إلى جانب سيبيون الافريقي في حربه ضد الجيش القرطاجني بقيادة حنبعل فانهزم هذا الأخير في معركة زاما قرب سليانة نتيجة الخيانة التي حصلت من طرف ماسينيسا.

والتاريخ نقل إلينا كيف استنجد أبو عبد الله محمد الحسن الحفصي آخر سلاطين الدولة الحفصية بشارلكان ملك اسبانيا للرجوع إلى عرشه فاغتنم ملك اسبانيا الفرصة لكي يشن حملة عسكرية على تونس شارك فيها أغلب ملوك أروبا و ترتب عنها سقوط البلاد تحت الإحتلال الاسباني سنة 1535 و قتل عشرات الآلاف من التونسيين ودنست مساجدهم كجامع الزيتونة على أيدي الغزاة و لم يكتب للبلاد ان تخرج من هذه المحنة إلا بعد 30 سنة من الاحتلال البغيض على ايدي العثمانيين الذين نظموا حملة عسكرية بقيادة سنان باشا أدت إلى طرد الإسبان سنة 1574 م.

كما حصل إقحام الأجنبي في شؤون البلاد في أزمتها المالية عن طريق خزندار فأصبحت تونس تحت الوصاية وهو ما مهد لدخول الحماية الفرنسية لبلادنا سنة 1881 و بقا ئنا 75 سنة تحت الإحتلال.

التاريخ مليء بالعبر و من واجبنا أن نستفيد من دروسه حتى لا تتكرر هذه المآسي ولو أن الوقت غير الوقت والوضع غير الوضع.

لذلك فإن قضية الوطنية تبدو في الوقت الحالي قضية ذات أولوية قد يرى البعض و خاصة من التيارات الإسلامية أنها قضية صنعتها الأنظمة الليبرالية و قد تجاوزها الزمن وأن الرابطة الدينية هي البديل عن الوطنية، هذا الموقف غير صحيح بالمرة فالوطنية هي العاطفة الداخلية التي تعبر عن ولاء الإنسان لبلده بحيث يصير الحب فيه والبغض لأجله و القتال في سبيله وقديما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لمكة عندما هاجر منها للاستقرار بالمدينة « ما أطيبك من بلد و ما أحبك إلي و لولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك «وكان الرسول صلى الله عليه و سلم يقول أيضا « اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو اشد».

فإذا كانت الوطنية في الأنظمة الليبرالية أمرا محبذا فهي في الاسلام أمرا مأمورا به و هو ما يفسر مغزى القولة الشهيرة « حب الوطن من الإيمان».

فالأصل في الإنسان أن يحب وطنه و يتشبث بالعيش فيه و لا يفارقه رغبة منه و حب الوطن غريزة متأصلة في النفوس تجعل الإنسان يستريح عند البقاء فيه و يحن إليه إذا غاب عنه و يعمل باستمرار على أن يرفع من شأنه في كل المجالات لذلك فإن الفرد يشعر بالسعادة القصوى عندما يتوج أبطال من بلاده و يفتخر بالمشاريع و الانجازات التي تقام على أديم وطنه لأنه يعتقد أن تلك الانجازات انطلقت منه و إليه يصونها ويحافظ عليها و في ذلك أرقى درجات التعبير عن الوطنية.

هذه المبادئ و القيم يتعين تعميقها لدى الناشئة خاصة و أنها لا تعرف الكثير عن الحرمان الذي عاشته الاجيال السابقة عندما سلبت حرية هذه البلاد و لا شك أن الاحزاب السياسية لها دورها في تعميق هذه القيم الخالدة ويضطلع المثقف بدور بالغ الاهمية في بلورتها سواء عبر الكتابات المتنوعة أو البرامج التثقيفية أوالأفلام السنمائية أو المسرحية وكل الابداعات الثقافية التي تكرس الحس الوطني و تبرزه في سائر الابتكارات الفنية.

لقد حان الوقت بالنسبة للمخرجين السنمائين في تونس أن يقلعوا عن تناول القضايا الجنسية التي لا تعكس حقيقة البلاد و أن يتحول انتاجنا السنمائي إلى ابداعات من نوع آخر تحكي قضايا المجتمع و ما عرفه خلال تاريخه الطويل من أزمات و انتصارات فهنالك من المؤلفات ما يفي بالحاجة لاعداد سيناريوهات لافلام جيدة كبرق الليل أو رحمانة أو مراد الثالث أوالكاهنة وغيرها من المؤلفات الجيدة حتى يتحول انتاجنا السنمائي والمسرحي إلى انتاج من نوع آخر يعطي فكرة أكثر إشراقا على قيم هذا الشعب و قضاياه الحقيقية

العبر التي يمكن استخلاصها و الدروس التي يمكن أن نتعلمها من تاريخنا الملئ بالاحداث هي عديدة ومتنوعة فالدرس الاول يتمثل في أن أي تقدم سياسي أو اجتماعي لا يمكن أن يحصل من الخارج فالقوى الداخلية الفاعلة هي التي أخذت على عاتقها مهمة انجاز التقدم التاريخي الذي عرفته البلاد على كل المستويات. لقد احتلت بلادنا عندما تدخلت القنصليات الأجنبية في شؤونها الداخلية و أصبحت تملي شروطها و أحكامها على الباي فانتصبت الحماية وقاسى التونسيون من مظاهر الحيف و الابتزاز بأنواعه وما يعجز القلم عن وصفه وافتكت أراضيهم و اسندت للمعمرين و هو ما جعل الزعيم الحبيب بورقيبة يرفض سنة 1964 التعويض للمعمرين عن هذه الاراضي التي افتكت منهم لأنه رأى أن الطرق التي حصل بها الأجانب على الاراضي التونسية كانت مريبة وغير شرعية كما اعتبرهم محظوظين لانهم لم يطلبوا بالتعويض عن الالم و المذلة التي تسببوا فيها للتونسيين.

لقد قام الاحتلال باستغلال اليد العاملة التونسية في انجاز مشاريع صعبة على أرضه و زج بابناء البلاد في حروب لاعلاقة لهم بها وتشير الاحصائيات إلى أن عدد التونسيين الذين وقع تجنيدهم من طرف فرنسا في الحرب العالمية الاولى يساوي 65 ألف مقاتل و هو عدد مرتفع بالقياس مع عدد سكان البلاد آنذاك الذي لم يكن يتجاوز المليونين و قد وضعوا في الخطوط الامامية للقتال مما تسبب في قتل و جرح 45 ألفا منهم. حصل ذلك لان الدم التونسي حسب قناعة المحتل هو أرخص من الدم الفرنسي الاجيال الجديدة مدعوة أن لا تنسى هذه الأحداث ومدعوة أيضا إلى أن تكون على وعي كامل بان كرامة التونسي هي رهينة استقلال بلاده وعدم تبعيتها للخارج وكل من يغض الطرف عن هذا المعطى تصبح وطنيته موضع شك.

ينتج عن هذا درس ثان و هو أن الوطنية التونسية هي مخالفة للقومية صحيح أن الدولة التونسية الفتية انحازت في بداية الاستقلال إلى مفهوم الدولة الأمة وهو ما يفسر التسميات القديمة لمجلس النواب الذي كان يطلق عليه "مجلس الأمة" والتسميات القديمة للمؤسسات الوطنية التي كان يطلق عليها «المؤسسات القومية».

لقد انتهجت تونس هذا المنهج لتأثر الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بالفكر الفرنسي من جهة و لخلافاته العميقة مع الرئيس جمال عبد الناصر فكان الزعيم الحبيب بورقيبة يعتبر أن تونس ليست جزأ من الامة العربية ولقد ذهب إلى حد التصريح بان "ما يربطنا بالعرب ليس الا من قبيل الذكريات التاريخية وأن مصلحة تونس أن ترتبط بالغرب وبفرنسا بصورة اخص مدعما موقفه بان مرسيليا أقرب لنا من بغداد أو دمشق أو القاهرة وأن اجتياز البحر الابيض المتوسط أسهل من اجتياز الصحراء الليبية."

لذلك نجد ان تونس بالرغم من حصولها على استقلالها يوم 20 مارس 1956 و انضمامها لمنظمة الأمم المتحدة في نوفمبر 1956 لم تتقدم بطلب الترشح لعضوية جامعة الدول العربية إلا بتاريخ 1 أكتوبر 1958 بعد الحاح كبير من جمهورية العراق لتعود وتقاطع اشغال الجامعة العربية بعد 15 يوما فقط من انضمامها مع قطع العلاقات الدبلوماسية مع الجمهورية العربية المتحدة فهذه ربما كانت الأسباب التي جعلت تونس تنادي في البداية إلى اعتبار أن هنالك أمة تونسية لكن بينت التطورات التي حصلت فيما بعد أنه لا يمكن الحديث عن أمة تونسية فهنالك وطنية تونسية وتونس ليست الشرق ولا هي الغرب ولكنها تمزج خصائص الشرق والغرب وهي مستقلة عن الواحد والآخر لذلك بدأ التراجع في آخر عهد الرئيس بورقيبة عن هذا الموقف بنوع من الاحتشام إلى أن جاء التغيير المبارك بقيادة الرئيس زين العابدين بن علي الذي جعل الدولة التونسية تتصالح نهائيا مع عناصر الهوية وبذلك تبلورت بصفة واضحة معالم الوطنية التونسية التي تختلف عن القومية العربية و هي وطنية تتبنى عناصر الهوية بدون أي لبس ولكنها تستمد خصائصها من قيم الاعتدال والحداثة و الوسطية.

هذا التصحيح وضع تونس في مكانها الطبيعي باعتبارها انجبت حنبعل و طوماس الاكويني وسحنون وابن خلدون وباعتبارها تأوي قرطاج والقيروان وعلى أديمها قام جامع الزيتونة المعمور الذي بني قبل جامع الازهر فهي حلقة الربط بين الشرق والغرب و أن مستقبل هذه البلاد يقتضي أن تتصالح نهائيا مع محيطها العربي الاسلامي دون أن تتخلى عن دورها المتوسطي و هو ما كرسته السياسة التونسية منذ التغيير.

أما الدرس الثالث والمهم هو أن الكثير منا مفعم بآمال عريضة و لكنه في بعض الأحيان ليس على وعي كامل بعلاقة هذه الآمال بالواقع فالعالم العربي والاسلامي يعيش حالة من الاحباط لاسباب متعددة ومن بينها بطء حركة التحديث و هذا العالم يحيط بنا من كل الجوانب فكان من الضروري أن يقع تحصين البلاد من التطرف الديني الذي بليت به أقطار قريبة منا و لم يكن هذا بالامر الهين باعتبار أن المتطرفين اتسم آداؤهم بالعنف الشديد.

استمرت ملاحقة هؤلاء عقدا من الزمن كان خلالها الشعب التونسي يبني بيد و يدافع بالأخرى وبعد أن توجت هذه المرحلة بانتصار كبير وضعتنا التطورات العالمية أمام تحديات جديدة فرضتها العولمة فكان من الضروري مواجهة هذه المرحلة باقتدار و مسؤولية.

إن طبيعة المرحلة الحالية تحتم مزيدا من التكاثف و لمّ الصفوف و الاستمرار في ترشيد الاقتصاد التونسي ومواصلة عملية التحديث و تتطلب هذه المرحلة كذلك أن تكون هناك مواكبة من البرامج التعليمية و التكوينية من أجل زيادة تجذير الحس الوطني لدى الاجيال الجديدة حتى تكون خير مؤتمن على مستقبل البلاد تحمي استقلالها وتصون أمنها وتواصل مسيرة التنمية بكل اقتدار بما يضع تونس بصفة نهائية في صفوف الدول المتقدمة.


Bookmark and Share
blog comments powered by Disqus
 

زوار المدونة

free counters

Map

Taoufik Gharbi

Taoufik Gharbi
w

عبر بكل حرية :


ShoutMix chat widget

Vous souhaitez que

Vous visitez mon Blog