"الإسلام دين عمل واجتهاد"
انطلق بورقيبة من وعيه الحقوقيّ بالمساواة، وهو رجل القانون المتخرّج من السّوربون، ورئيس الجمهوريّة ذات الدّستور المستوحى في جانب كبير منه من مبادئ حقوق الإنسان، وانطلق من تجربة النّساء اللاّتي أحطن به، ولكنّه أراد أن يتكلّم لغة يفهمها المسلمون ويقبلونها، كما فعل عندما اجتهد في إلغاء تعدّد الزّوجات، بل ذهب به الأمر إلى اعتبار نفسه جامعا بين السّلطتين الرّوحيّة والزّمنيّة، أي "أمير مؤمنين".
في فقرة نورد منها ما يلي : "على أنّي أريد أن ألفت نظركم إلى نقص سأبذل كلّ ما في وسعي لتداركه قبل أن تصل مهمّتي إلى نهايتها، وأشير بهذا إلى المساواة بين الرّجل والمرأة، وهي مساواة متوفّرة في المدرسة وفي المعمل وفي النّشاط الفلاحيّ وحتّى في الشّرطة، لكنّها لم تتوفّر في الإرث حيث بقي حظّ الذّكر مثل حظّ الأنثيين. وهذا المبدأ له ما يبرّره عندما يكون الرّجل قوّاما على المرأة، وقد كانت المرأة بالفعل في مستوى اجتماعيّ لا يسمح بإقرار مساواة بينها وبين الرّجل. فقد كانت البنت تدفن حيّة وتعامل باحتقار، وها هي اليوم تقتحم ميدان العمل وقد تضطلع بشؤون أشقّائها الأصغر سنّا (...) فعلينا أن نتوخّى طريق الاجتهاد في تحليلنا لهذه المسألة وأن نبادر بتطوير أحكام الشّريعة بحسب ما يقتضيه تطوّر المجتمع، وقد سبق لنا أن حجّرنا تعدّد الزّوجات بالاجتهاد في مفهوم الآية الكريمة. ومن حق الحكّام بوصفهم أمراء المؤمنين أن يطوّروا الأحكام بحسب تطوّر المجتمع، وتطوّر مفهوم العدل ونمط الحياة." (لطفي حجّي، بورقيبة والإسلام، تونس، 2004، ص233)
حجّة السّلطة المتمثّلة في النّصّ الدّينيّ لم تسعفه، لأنّ آية المواريث لا يمكن الاجتهاد في تأويلها، وإن كان يمكن الاجتهاد في علّتها، والإقرار ببطلان حكمها لبطلان علّتها. وهذه الحجّة الممكنة أيضا لم يسعفه بها رجال الدّين من حوله، ولذلك نصّب نفسه سلطة دينيّة بدلا عن النّصّ الدّينيّ.
إلاّ أنّ السّياق الذي سمح له سنة 1956 بمنع تعدّد الزّوجات وفرض مجلّة الأحوال الشّخصيّة قد تغيّر.
السّياق كان سياق هيمنة الآليّة الدّينيّة- الدّبلوماسيّة السّعوديّة، لاسيّما إثر الحصار النّفطيّ الذي خرجت منه المملكة السّعوديّة منتصرة سنة 1973، فتبادر للعرب لوهلة قصيرة أنّهم يمثّلون فعلا قوّة سياسيّة موحّدة. تحرّكت الآليّة الوهّابيّة السّعوديّة إذن بقوّتها النّفطيّة للضّغط على بورقيبة بسبب آرائه الواردة في هذا الخطاب، ومن بينها رأيه في المساواة في الميراث.
يقول المفتي ابن باز في رسالة بعث بها إلى الوزير مدير الدّيوان الرّئاسيّ آنذاك، مفنّدا "شبهة" المساواة في الميراث، مذكّرا بمبدإ أفضليّة الرّجال على النّساء :
"ثمّ يقال لهذا الرّجل وأمثاله إنّ مساواة المرأة والرّجل في كلّ شيء لا يقرّه شرع ولا عقل صحيح، لأنّ اللّه-سبحانه- قد فاوت بينهما، في الخلقة والعقل وفي أحكام كثيرة، وجعل الرّجل أفضل منها وقوّاما عليها لكونه يتحمّل من المشاقّ والأعمال ما لا تتحمّله المرأة-غالبا-، ولأنّ عقله أكمل من عقلها-غالبا-ولذلك جعله اللّه، سبحانه، قائما عليها حتّى يصونها... وجعل شهادة المرأتين تعادل شهادة الرّجل لكونه أكمل عقلا وحفظا منها..." (المرجع المذكور، ص217)
لم يكتف المفتي السّعوديّ بإبداء رأيه باعتباره رجل دين، بل اتّهم بورقيبة بالكفر الصّريح، وكانت رسالته إليه تحمل تهديدا واضحا : فهو مخيّر بين إعلان التّوبة النّصوح أو التّكذيب.
وقد ذكر محمّد المصموديّ، وزير الخارجيّة في عهد بورقيبة أنّ الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود هو نفسه أرسل إلى بورقيبة هدّده فيها بالقطيعة في صورة إقراره المساواة في الميراث. ("حقائق"، عدد 954، 14 / 4 / 2004).
ولكنّ الملفّ لن يطوى هذه المرّة كما طوي في الثّلاثينات، أو لن يطوى لفترة طويلة، لأنّ الثّغرة انفتحت ولن تغلق، ولذلك مظاهر عدّة.
أهمّ هذه المظاهر أنّ مبدأي أفضليّة الرّجال على النّساء والقوامة، وهما المبدآن اللّذان ذكّر بهما المفتي السّعوديّ، في تجديفه الأصوليّّ ضدّ التّاريخ، أصبحا متعارضين مع واقع الحال في سائر البلدان العربيّة، وفي تونس خاصّة.
لم يعد لهذين المبدأين أساس اجتماعيّ اقتصاديّ، بما أنّ المرأة أصبحت منتجة، أو متاح لها لأن تكون منتجة، وأصبحت تنفق على نفسها وتساهم في الإنفاق على الأسرة، وهو ما تبطل معه حجّة الأفضليّة والقوامة، بما أنّ مبرّرهما المعلن عنه هو إنفاق الرّجل على المرأة. فالأساس التّيولوجيّ لأفضليّة الرّجال على النّساء قد انهار في واقع الحال، و إن ظلت ظلاله الرّمزيّة تضفي قداسة على بعض الأحكام المتعلّقة بالقوامة، منها عدم المساواة في الميراث في تونس، وتعدّد الزّوجات وغير ذلك من الأحكام في البلدان العربيّة الأخرى.
وحتّى المهر الذي ذهب إخوان الصّفاء إلى أنّه يعادل النّصف الذي يقتطع من نصيب النّساء من الميراث، فإنّه لم يعد معمولا به في تونس، بل إنّه في الصّيغة الحاليّة لعقد الزّواج الذي يعقده ضابط الحالة المدنيّة أو عدل الإشهاد لا تتجاوز قيمته دينارا تونسيّا (أقلّ من دولار أمريكيّ).
وفي هذا الوضعيّة الجديدة التي خلقها خروج النّساء وعملهنّ، لم تعد المرأة ملكا للرّجل، بل أصبحت عمليّا شريكة للرّجل وقرينة له، حتّى وإن كانت لا تعمل خارج البيت، حتّى وإن كانت غير مجبرة في القوانين الحاليّة على الإنفاق على الأسرة. وحلّت سلطة الأبوين محلّ سلطة الأب، بزوال مبدإ طاعة الزّوجة زوجها وتعويضه في القانون التّونسيّ بـ"حسن المعاشرة".
.