حوار خاص مع الأستاذ الصادق شعبان
(عضو اللجنة المركزية للتجمع ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي)
في هذا الحوار يتناول الأستاذ الصادق شعبان عضو اللجنة المركزية للتجمع ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي مسائل تتصل بالدستور التونسي ضمن مسار تاريخي متطوّر ثريّ بالمكاسب والتحوّلات، متطرّقا بالخصوص الى ما شهده الدستور منذ التحوّل من اصلاحات تعكس عراقته من جهة وتطوّره من جهة ثانية في ضوء ما تشهده بلادنا منذ التغيير من ديناميكية ورقي وتحديث.
اختار أرسطو دستور قرطاج على دستور أثينا. كيف تنظرون الى هذا المعطى التاريخي؟
ـ هو ليس معطى تاريخي فقط، بل هو تعبير عن حضارة عريقة لبلادنا، فتونس لم تعرف الدستور اليوم فقط، ولا على مدى خمسين سنة أو 150 سنة (اشارة الى دستور 1861). تونس عرفت المؤسسة الدستورية منذ حوالي 2500 سنة، لذلك لنا تقاليد مؤسساتية ولنا حسّ بالتقيّد بالقانون، البعض يعتبرنا كأننّا غبار من الأفراد لا أعراف تربطنا ولا ضوابط ولا قيما ولا نواميس! أبدا، تونس كانت منذ القديم قائمة في ظلّ القانون وفي اطار المؤسسات، وكل ابتعاد عن المنظومة الدستوريّة اعتبر نشازا.
ونحن نعتزّ بما قاله أرسطو لمّا قارن دساتير العالم في ذلك الوقت (3 قرون قبل الميلاد)، وشهد أنّ أفضلها هو دستور قرطاج، لأن ديمقراطية قرطاج ليست شعبوية ولا نخبوية، هي ديمقراطية توازن بين تشريك الشعب وتوظيف أفضل الكفاءات، لذلك اعتبرها أرسطو من أفضل جمهوريات ذلك الوقت.
هذا الرصيد يجب أن نعرّف به ونطلع شبابنا عليه، ونقول لأي زائر إن تاريخ الديمقراطية في تونس طويل وإن حصلت لنا حقبات غابت فيها سلطة الشعب.
الفكر المؤسساتي متغلغل في الثقافة الوطنية، ومبادئ المساواة والعدل هي مبادئ سامية لدينا. نحن جمهوريون منذ زمن قديم، والعصور التي لم تكن جمهورية كانت عصورا استثنائية. فلا يعلّمنا اليوم أحد كيف نؤسس لديمقراطيتنا وكيف ننحت خصائص جمهوريتنا.
تحتفل بلادنا هذه السنة بالذكرى الخمسين لاصدار دستورها. في أي سياق ومرتبة تنزّلون الدستور التونسي ضمن الدساتير المقارنة في العالم؟
ـ دستور 1959 هو من أثمن مكاسب الاستقلال، هو رمز السيادة والحرية والنظام والعدالة. أول ما اتجه إليه عمل رجال الاستقلال هو وضع الضوابط التي ستعمل على ضوئها الدولة الجديدة. وجمّعوا خيرة المناضلين ومن حساسيات فكريّة مختلفة لوضع الدستور الجديد للبلاد.
ملابسات وضع هذا الدستور كتب عنها الكثير من المؤرخين. والكل يعرف كيف أن البداية كانت تسير نحو خلق ملكية دستورية، ثم تسارع الاتجاه نحو إلغاء الملكية، والتأسيس للجمهورية. ثم إنّ هذا الدستور كان ليبراليا في نمطه، ولكن في نفس الوقت مركزيّا في مؤسساته إذ أعطى أهم الصلاحيات لرئيس الدولة. ولم تكن هناك سلط مضادة حتى يتوازن النظام حسب المقولة الشهيرة لمنتسكيو: «السلطة هي التي توقف السلطة».
لكني مع ذلك أرى أن بداية الاستقلال في تونس كانت تحتاج الى نظام قويّ، وأن توحيد صفوفنا وتحديث مجتمعنا والجرأة في أخذ بعض الخيارات التي لم تكن مقبولة من الجميع، كانت كلها تحتاج الى دولة قويّة ونفوذ مركّز، لذلك أعتبر أن دستور 1959 كان ملائما لذلك العصر، وأنه قدم خدمات للدولة والمجتمع.
بعض الممارسات فيما بعد هي التي استغلّت بعض الثغرات في الدستور وأضعفت التوازن الذي كان في أصله هشّا، وحادت بالمؤسسة الدستورية الى الشخصنة والانفرادية. لكني أبقى أحب دستور 1959 لأنه لبنة الاستقلال الأولى، وإنّي أحيّي الرئيس زين العابدين بن علي لأنّه دعا الجميع الى الاحتفال بهذا الدستور. والمجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي أترأسه سوف يتولى بدوره المساهمة في هذا الاحتفال.
هل واكب الدستور التونسي تحوّلات المجتمع والدولة منذ إصداره؟
ـ هذا السؤال صعب جدّا، لأن الاتجاهات تشعبت، هناك انحرافات حصلت وقنّنتها التعديلات الدستورية مثل الرئاسة مدى الحياة التي حرمت الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة من محاكاة الشعب دوريا وقياس شعبيته لتصحيح الأخطاء والقيام بالجديد. ولكن هناك تعديلات استجابت في السبعينات لمقتضيات التحرّر الاقتصادي وكان إحداث خطة وزير أول له صلاحيات واسعة، وكانت أيضا فكرة اخضاع الحكومة لرقابة مجلس النواب.
لكن هذه التعديلات غيّرت بعض الشيء في إدارة الحكم وفي توزيع النفوذ، لكنها بقيت في الأساس شكليّة، وغلبت صراعات القصر على الهيكل التنظيمي الرسمي، وتشكلت مجموعات تستهوي ودّ الزعيم بورقيبة وتفتك المناصب تهيّؤا لخلافته، كان صراعا فوقيّا ترك الشارع يسير من دون ثبات، وترك الاقتصاد ينخرم تدريجيّا وترك المحركات التي لا تؤمن بالقيم الجمهوريّة تترعرع.
منذ تحوّل السابع من نوفمبر 1987 شهد الدستور تنقيحات واصلاحات عديدة. كيف ساهم ذلك في تطويره وتحديث فصوله؟ وماهي المجالات الأبرز التي تدعمت بهذه الاصلاحات؟
ـ تحوّل السابع من نوفمبر 1987 هو قطع جذري مع ممارسات سابقة وتصحيح دستوري وقانوني ساعد على تأمين المستقبل. اجراءات عديدة لا يمكن حصرها نذكر منها إلغاء الرئاسة مدى الحياة، واخضاع رئاسة الجمهورية لانتخابات دوريّة، وإعادة الاعتبار للمؤسسة القضائية وعلى الخصوص رقابة دستورية القوانين، كما نظمّت أيضا التعددية، ومنعت الأحزاب التي لا تؤمن بالقيم الجمهورية، وحيّدت المساجد حتى تكون بيوتا للّه لا مرتعا للسياسيين، ووضع ميثاق وطني حدّد القيم والمبادئ التي تسير عليها التنافسيّة، وعدّل النظام الانتخابي عديد المرّات. نجد احصائيات كثيرة في بعض الكتابات، يكفيك أن تعرف أنّ في مجلس النواب اليوم هناك 37 نائبا عن المعارضة من مجموع 187، ولسوف يبلغ عدد نوابها 53 بالسقف الجديد الذي حدّده رئيس الدولة لحزب الأغلبية الذي لا يمكن أن يحصل على أكثر من 75٪ من المقاعد مهما ارتفع عدد الأصوات التي حصل عليها.
غير أنّ أهم تعديل أراه للرئيس بن علي هو أنه بنى ديمقراطية راقية تتسم بالمردودية، حيث أنها تدفع الأحزاب الى تقديم برامج وتعرض الكثير من الآراء أمام كل التونسيين. لم تعد كما كانت في السابق أحزابا ذات طابع عقائدي تختفي فقط وراء شعارات جذّابة، وإنّما أصبحت أحزابا تعالج مشاغل الناس وتعرض حلولا لها. وهو تغيير جذري في منطقتنا العربية الاسلامية التي لم تكن تعرف مثل هذا النموذج من الديمقراطية.